02‏/09‏/2011

كيف نسقط الدكتاتورية.. النظام.. المنبطحون .. و نحن


لعل أحد المفارقات العجيبة أن الأنظمة الدكتاتورية تجلب معها الموت والدمار عند نشؤها، وتُخلّف الموت والدمار بعد سقوطها… وبين النشوء والسقوط يكون الدم والرصاص هو صبغة الحكم، ومع ذلك استطاعت أن تجد لنفسها دولاً وإمبراطوريات وممالك امتدت عبر التاريخ وانتشرت عبر العالم

ولطالما عمدت الأنظمة الدكتاتورية على طرح نفسها على أنها أنظمة تسعى إلى ترسيخ المبادئ السامية، فلم يحدث أن وقف أي ديكتاتور وبشكل علني ومنهجي ضد الحرية والعدالة والكرامة والمساواة..لكن هذه الأنظمة لا تأخذ من هذا الطرح سوى الاستغراق بالزمن والاستمرار بالحكم بحيث نرى أن السنين والعقود تتعاقب ويستمر الدكتاتور بحكمه في حين أن الطرح يبقى بإطاره المجرد والرمزي، وبتعاقب الأزمنة يصبح مجرد إطار عديم المعنى والمغزى تصيبه الشيخوخة ولكنه يبقى الأداة الأوحد لتثبيت الحكم

إن العنف والقتل المتبادل والثأر قد يزيح الدكتاتورية عن نظام الحكم لكنه سيفشل حتما” في مجالين مهمّين : الأول أن العنف لن يستطيع ترويض النفس الإنسانية وسحب المظاهر الاستبدادية من نفوس من رزحوا تحت حكم هذه الأنظمة أو من ثاروا عليها…ثانياً: أن إسقاط الدكتاتورية باستخدام نفس آلياتها وأدواتها وأساليبها لن ينتج إلا نظاما” دكتاتوريا جديداً ولكن بصيغة مخاتلة جديدة

لذلك لابد من خلق آليات جديدة ومبادئ أخلاقية لمقارعة الطغيان بحيث لا نُسقط الظلم بالظلم ! إن هذه الآليات والمبادئ هي الكفيلة بإقامة الحرية بعد العبودية والعدل بعد الظلم والسلم بعد القتل والأمان بعد الخوف…وأي انحراف عن هذه المبادئ سيعيد كرّة الدكتاتورية من جديد ويُدخل التاريخ في حلقة متصلة..يسقط فيها ظالم ليقوم من رماده ظالم آخر.

ليس منطقياً أن تتم مواجهة أي نظام دون هدف كبير واضح وإستراتيجية محددة المعالم بمعنى أن لا يكون الهدف هو القضاء على الديكتاتورية الحاكمة فقط، وإنما الهدف يجب أن يكون هو إقامة الحكم العادل والذي يحتوي بمضمونه أساساً لسقوط الدكتاتورية ..كما أن الإستراتيجية يجب أن لا تكون بمنطق استعمال الأدوات الموجودة فقط (النضال السلمي إذا أمكن ذلك، وإلا الاحتكام إلى السلاح عند الاضطرار) وإنما بمنطق الاعتماد على أدوات واضحة وتبنيها بكل الظروف والإصرار عليها تحت كل الضغوط النضال السلمي، وان لم تتوفر هذه الأخيرة فلابد من خلق البيئة التي توفرها الترويج والتأكيد على المبادئ الأخلاقية المساندة للتحرك السلمي، والهدف يكون موجوداً لزاماً قبل التحرك الشعبي ولكن الإستراتيجية قد تتشكل بوقت سابق لإنطلاق النضال ضد النظام الدكتاتوري وقد تُفرز لاحقاً اثر تفجر الاحتجاجات بعد حدث أو أحداث قد لا تمت بظاهرها للنضال المعلن لإسقاط النظام الديكتاتوري ..ولكن في كلتا الحالتين يجب على كل المناضلين في سبيل التخلص من الحكم القائم أن يضعوا في الحسبان نقاطاً هامة جداً :

أولاً : لا يجوز إسقاط نظام ديكتاتوري لإقامة نظام ديكتاتوري آخر يتمايز عن السابق بعدة أوجه ليتماهى ويتطابق معه في أغلب الأوجه…

ثانياً : إن أساليب النضال يجب أن تكون واضحة ومبنية ومصرّة على (المبدأ) وأن لا تحمل صورة ردود الأفعال أو الارتجال بحيث يمكن جرّها إلى أشكال أو أساليب قد لا تنسجم بالمطلق مع هدف النضال..

ثالثاً : يجب أن يوضع في الحسبان دوماً أن ضريبة النضال لإسقاط الأنظمة الدكتاتورية تكون بالعادة باهظة أو حتى باهظة جداً وغالباُ ما تكون غير متكافئة مع آليات النضال لإسقاط الديكتاتور

إن الأنظمة الدكتاتورية وإن ظهرت بمظهر القوة والتماسك والتنظيم..وإن عمدت إلى استخدام وتطويع كل أجهزة الدولة وتسخيرها لخدمة استمراريتها وتلميع صورتها فإنها لا محالة ساقطة أمام حركة الشعب المنظّم والذي قد لا يمتلك في مرحلة من المراحل أي أدوات ذات أهمية في طرح نفسه سوى إعلان الخروج على الحاكم..لكن تجارب التاريخ قالت أن الدكتاتوريات بكل جبروتها بدأت بالتصدّع عندما استطاعت الشعوب المغلوبة على أمرها أن تعرّي هذه الأنظمة وتُسقط كل الأقنعة عنها..ومن ثَمَّ ستكتسب هذه الشعوب قدرتها على التنظيم أكثر ورص الصفوف أكثر ليتوّج نضالها بتهاوي هذه الأنظمة وانهيارها المدوّي. إن إسقاط الأنظمة الديكتاتورية ليس مسألة معزولة عن التاريخ والجغرافية..ولكنه حلقة متصلة تستمد من التاريخ نزعة إنسانية للتحرر ومن الجغرافية اتصالاً بين الشعوب التوّاقة لبلوغ الهدف السامي. لذلك يجب طرح (مبدأ التحرر) على انه جزء لا ينفصل ولا يستطيع أصلاً أن ينفصل عن حركة التاريخ وعن امتداد الجغرافية. إن النظر إلى واقع الشعوب التي ترزح تحت وطأة الديكتاتورية يطرح صورة مرعبة عن التشوّه الذي استباح روح الإنسان وعقله، فنرى أن الناس يشعرون بالظلم والقهر، ويتعرضون لكل أشكال الإذلال والامتهان يُنهبون ويُسرقون ويُقتلون، لكنهم لا يتجرؤون على مواجهة الجلّاد لأنه عمد خلال حكمه على خلق روح العبودية بداخلهم، ونشر فكرة الانسحاب واللامبالاة والأنانية، وأنهم ضعفاء لا يقدرون على شيء ناهيك عن تخوّف الناس من بعضهم البعض بحيث لا يتجرأ المرء على الحديث أمام اقرب الناس إليه وبذلك تبقى الجموع الكبرى من الشعوب المغلوبة على أمرها تتحرك بصيغ فردية و ضيقة لا ترقى إلى القدرة لإسقاط النظام الدكتاتوري، وقد تتجذّر العبودية عند الكثيرين لتصل إلى درجة المحاباة والانصهار في هذا النظام الديكتاتوري (أحياناً حتى بدون مكاسب كبرى) ليصبحوا هم جزء من النظام ومن آليات الدفاع عنه فنراهم ينكرون أي مظهر من مظاهر استبداده، ويرفضون أي تحرّك يكشف هذا الاتصال بين العبودية التي يمارسونها والاستبداد الذي يُمارس عليهم

اثبت التاريخ أنه لا يوجد نظام يعمّر إلى مالا نهاية ووحدها الشعوب لاتشيخ ولا تهرم لقد !

إن الأنظمة الديكتاتورية تبنى وتستمر على مقومات عديدة أهمّها :

1 - نزع كل السلطات ووضعها بيد الحاكم لتتحول كل أجهزة الدولة إلى أدوات مهمّتها إسقاط شخصية الحاكم ونظرياته وسلوكه ورؤاه على هياكل ومؤسسات الدولة لتُختَزل هياكل الدولة وسياستها و مؤسساتها و إعلامها في شخص الديكتاتور، فخارج شخصه لا يوجد ما يُعبّر به عن الدولة. فهو الإله المعبود والمنقذ والمخلّص و المفكر والمعلّم والقائد الأوحد والرب الذي لا يدانيه في ملكوته أحد، بل كل من يقترب من دائرة قداسته سيحترق بأنواره الربّانية !

2 – تهميش المجتمع أفراداً وجماعات وزعزعة ثقة الإنسان بنفسه وتشويه محتواه العاطفي والعقلي والأخلاقي والديني وجعل الخوف والترقب سلوكاً يومياً ونزع زمام المبادرة من يد الشعوب التي تجد نفسها مع مرور السنين تحت حد السيف عاجزة عن أي تحرّك للخروج من قمقم العبودية. فهم العبيد وكُتب عليهم ذلك في سِفر حاكمهم – الإله: إنهم هم العبيد وليس لهم إلا أن يتباركوا بنعيم رضاه !

إن استمرار الأنظمة الديكتاتورية مرهون ببعض أسبابه في السلطة التي يخلقها ويروجها بأنه هو الحاكم الشرعي والوحيد ومن ثِمّ يرغّب ويُرهب الشعب لتبنيها، وبـموارد الدولة التي يعمَد منذ توليه الحكم إلى ربطها وتجميعها في يده وبيد الحلقة الضيقة من حوله الخاصة من العائلة الحاكمة وتفرعاتها الاجتماعية. بسبب هذا وغيره قد تجد الشعوب نفسها أسيرة الإيمان بالحاكم (شرعيّة), محكومة بالقوة التي امتلكها بيده من اقتصاد وعسكروموارد، فيضعف الأمل يوماً بعد يوم بإمكانية التغيير، ليصير النسق العام لحركة الشعب هي النزوع إلى أقل الخسائر في عبوديتها للحاكم، وليس أكبر المكاسب في تحديها لسلطته !

إن الخروج على النظام الديكتاتوري ليس أمراً هيناً قد يحدث بين عشية وضحاها وليس نتيجة قرار يأخذه الشعب في موقف ارتجالي أو حدث عابر، و إنما هو قرار وقناعة تتبنى أفكاراً ورؤى وخطط عمل تتجه نحو فرز ما هو كائن عمّا يجب أن يكون !

الديكتاتورية وإن كانت نظاماً يفرض نفسه بكل تفاصيل الدولة والمجتمع ويتماهى مع ماضي الدولة وحاضرها ومستقبلها، فهي لن تكتسب الشرعيّة إلا من خلال تشريع الشعوب لها ولممارساتها. فبدون شعب مشرِّع لا يوجد دكتاتورية حاكمة ! لذلك تكون الخطوة الأولى من إسقاط الأنظمة الدكتاتورية والخروج عليها هي إسقاط شرعيتها..

إن المجتمع الدولي لا يرغب باستبدال الأنظمة الدكتاتورية وإن أعلن ذلك، وحدها الشعوب تُسقط أنظمتها وتنزع عنها الشرعية وذلك بأن تُباشر سياسياً واجتماعياً بسحب السلطة و الموارد من يد الحاكم. وقد يتحقق ذلك بطرح مشروع وطني تُساهم به كافة أو مبدئيأ أغلب القوى المناضلة حقيقية، مع جدول زمني يستوعب مخاطر الفترة الانتقالية بين سقوط الديكتاتورية وقيام الديمقراطية، فإذا وُضِع هذا المشروع بشكل واقعي واستطاع أن يتلمّس أخطاء النظام السابق ومكامن هشاشته وضعفه فانه سيصبح أداة جاذبة لكل القوى الرمادية وقد يقدِر المشروع في مراحل متقدمة أن يجذب حتّى القوى الموالية للحاكم إذا أصبح تصدّع النظام واضحاً خاصة الأزمات الاقتصادية وان حدث هذا فان قيام النظام الديمقراطي سيكسب الرهان الزمني ويتخلّص من كل المتربصين به في فترته الانتقالية.

لكن كيف يتم ذلك؟

رغم أن الأنظمة الديكتاتورية تتشابه من حيث بنيتها وآليات حكمها وتكاد تتطابق في شخصياتها ورموزها. إلا أن طرق مواجهتها وإسقاطها تتبدل من حيث الزمان و المكان، حتى يمكن القول أن الإستراتيجية المُتبناة لإسقاط الطاغية في بلد ما هو سِمّة مميزة لهذا البلد على الرغم من التشابه الظاهري بعناوين النضال العريضة مع البلدان الأُخرى، وأقصد هنا أن عناوين النضال العريضة هي هدف وهذا الهدف واحد في الزمان والمكان، لكن ما يُسقط الديكتاتوريات ويهدُّ عروشها هو (الآليات) التي تتبناها الشعوب في سعيها الدؤوب لبلوغ الحرية وهذا يتبدل زمنياً ومكانياً. ولعل الخوض في هذه الآليات يحتاج لبحث طويل وتخصصي يتحرك من موقع تشريح حالة كل نظام دكتاتوري على حدا تاريخياً وسياسياً، ودراسته كحالة متفردة بحيث نقف على كل مفصل من مفاصل الحكم والمقاومة، وربطها في الإطار الكبير وصولاً إلى كمال الصورة وجلاء الرؤية في أسباب النشوء وأسباب الانهيار. ولكني هنا سأعمد للحديث عن بعض ملامح هذه الإستراتيجية المعتمدة في إسقاط النظام الديكتاتوري

– إن سقوط النظام الديكتاتوري هو فعل داخلي، أي يمكن الوصول إليه فقط من خلال المقاومة الداخلية وليس هناك سبيل آخر

ان دور القوى الخارجية والمجتمع الدولي هو زعزعة قوة النظام الديكتاتوري والتضييق عليه عن طريق العقوبات الاقتصادية والعسكرية والسياسية وحتى الملاحقة القانونية ولكن هذا الفعل يتمّ حقيقة بدافع المصالح سواء السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية وإن كانت هذه المصالح تتستر أحياناً كثيرة خلف أهداف إنسانية.

الاستمرار بالنضال السلمي حتّى بلوغ الهدف الأسمى بسقوط الديكتاتورية كاملة. وعدم إعطاء أي طوق نجاة للحكومة الديكتاتورية (خاصة مسألة المصالحة) وعدم الرضوخ لأي حل قد يعطي فسحة (وإن كانت ضيقة) للنظام ليلتقط أنفاسه..حتى وإن أدى ذلك إلى تأزم الوضع الداخلي أكثر

طرح مشروع وطني محدد المعالم وذو جدول زمني وقابل للتطبيق مقبولاً من الداخل ومنسجماً مع الاحتمالات التي قد تواجهها الحركة المناضلة من أجل إسقاط النظام الديكتاتوري… و تقوم المعارضة التي تطرح نفسها كبديل عن النظام بطرحة وشرحه لمختلف القوى

التدرج في قبول الدعم الخارجي و(عدم الاستعجال وحرق المراحل) للوصول إلى سقوط النظام لأن ذلك قد يزيح الديكتاتورية الداخلية ويستبدلها باستعمار خارجي ( فالهدف ليس إسقاط النظام وإنما إقامة نظام !!)…وقد يحدث أيضاً أن تسقط الديكتاتورية قبل أن تُنضج المقاومة رموزها القادرين على قيادة الدولة خلال المرحلة المقبلة ويتجلّى هذا خصوصاً في البلدان التي رزحت لفترة طويلة تحت أنظمة استبدادية شموليّة ألغت خلال حكمها كل أشكال العمل السياسي والمعارضة والتعددية.

عدم الدخول بمفاوضات مع القوى الخارجية لكسب دعمها من خلال تقديم تنازلات تتعلّق خاصة” بالسيادة أو شكل السياسة الخارجية المُقبلة أو الاقتصاد مهما كانت الضغوط ( سواء ابتزاز هذه القوى نفسها أو ضغوط النظام القائم كالقمع والقتل). وإنما الارتكاز خلال المفاوضات على كسب الدعم من خلال عدالة القضية، فلا يجوز التفاوض بروح العبودية أو الاستجداء أو الاستقواء أو التنازل عن الحقوق العادلة مقابل دعم الخارج لإسقاط النظام.

التأكيد على أن المقاومة الداخلية قادرة على التحمّل والاستمرار بتدرّج متصاعد وهذا سيخلق ضغطاً يمتد في كل أرجاء العالم خاصة في ضوء المقدرة الاعلامية للمقاومة الداخلية وحنكة الخطاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق